سورة الكهف - تفسير تفسير ابن الجوزي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الكهف)


        


قوله تعالى: {الحمد لله} قد شرحناه في أول الفاتحة. والمراد بعبده هاهنا: محمد صلى الله عليه وسلم، وبالكتاب: القرآن، تمدَّح بانزاله، لأنه إِنعام على الرسول خاصة، وعلى الناس عامَّة. قال العلماء باللغة والتفسير: في هذه الآية تقديم وتأخير، تقديرها: أنزل على عبده الكتاب {قيّماً} أي: مستقيماً عدلاً. وقرأ أبو رجاء، وأبو المتوكل، وأبو الجوزاء، وابن يعمر، والنخعي، والأعمش: {قِيَماً} بكسر القاف، وفتح الياء، وقد فسرناه في [الأنعام: 161].
قوله تعالى: {ولم يجعل له عوجا} أي: لم يجعل فيه اختلافا، وقد سبق بيان العِوَج في [آل عمران: 99].
قوله تعالى: {لينذر بأساً شديداً} أي: عذاباً شديداً، {من لدنه} أي: من عنده، ومن قِبَلِه، والمعنى: لينذر الكافرين {ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم} أي: بأن لهم {أجراً حسناً} وهو الجنة. {ماكثين} أي: مقيمين، وهو منصوب على الحال. {وينذر} بعذاب الله {الذين قالوا اتخذ الله ولداً} وهم اليهود حين قالوا: عزيرٌ ابن الله، والنصارى حين قالوا: المسيح ابن الله، والمشركون حين قالوا: الملائكة بنات الله، {ما لهم به} أي: بذلك القول {من عِلْم} لأنهم قالوا: أفْتَرَى على الله، {ولا لآبائهم} الذين قالوا ذلك، {كَبُرَتْ} أي: عَظُمَتْ {كلمةً} الجمهور على النصب. وقرأ ابن مسعود، والحسن، ومجاهد، وأبو رزين، وأبو رجاء، ويحيى بن يعمر، وابن محيصن، وابن أبي عبلة: {كلمةٌ} بالرفع. قال الفراء: من نصب، أضمر: كُبْرتْ تلك الكلمةُ كلمةً، ومن رفع، لم يضمر شيئاً، كما تقول: عَظُم قولك. وقال الزجاج: من نصب، فالمعنى: كبرت مقالتهم: اتخذ الله ولداً كلمة، و{كلمةً} منصوب على التمييز. ومن رفع، فالمعنى: عظمت كلمة هي قولهم: اتخذ الله ولداً.
قوله تعالى: {تخرج من أفواههم} أي: إِنها قول بالفم لا صحة لها، ولا دليل عليها، {إِن يقولون} أي: ما يقولون {إِلا كذبا}. ثم عاتبه على حُزْنِهِ لفوت ما كان يرجو من إِسلامهم، فقال: {فلعلك باخع نفسك} وقرأ سعيد بن جبير، وأبو الجوزاء، وقتادة: {باخعُ نفسِك} بكسر السين، على الإِضافة. قال المفسرون واللغويون: فلعلك مهلك نفسك، وقاتل نفسك، وأنشد أبو عبيدة لذي الرمَّة:
ألا أيُّهَذَا الباخِعُ الوجْد نَفْسَهُ *** لِشَيْءٍ نَحَتْهُ عَنْ يَدَيْهِ المقَادِرُ
أي: نحَّتْه. فإن قيل: كيف قال: {فلعلك} والغالب عليها الشك، والله عالم بالأشياء قبل كونها؟
فالجواب: أنها ليست بشكّ، إِنما هي مقدَّرة تقدير الاستفهام الذي يعنى به التقرير، فالمعنى: هل أنت قاتل نفسك؟! لا ينبغي أن يطول أساك على إِعراضهم، فإن من حَكَمْنَا عليه بالشِّقْوَةِ لا تجدي عليه الحسرة، ذكره ابن الأنباري.
قوله تعالى: {على آثارهم} أي: من بعد تولِّيهم عنك {إِن لم يؤمنوا بهذا الحديث} يعني: القرآن {أسفا} وفيه أربعة أقوال.
أحدها: حَزَناً، قاله ابن عباس، وابن قتيبة.
والثاني: جَزَعاً، قاله مجاهد.
والثالث: غَضَباً، قاله قتادة.
والرابع: نَدَماً، قاله السدي. وقال أبو عبيدة: نَدَماً وتَلهُّفاً وأَسىً. قال الزجاج: الأسف: المبالغة في الحزن، أو الغضب، يقال: قد أسف الرجل، فهو أَسيف، قال الشاعر:
أَرَى رَجُلاً مِنْهُمْ أَسِيفاً كَأَنَّما *** يَضُمُّ إِلى كَشْحَيْهِ كَفّاً مُخَضَّبا
وهذه الآية يشير بها إِلى نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كثرة الحرص على إيمان قومه لئلا يؤدّي ذلك إِلى هلاك نفسه بالأسف.


قوله تعالى: {إِنا جعلنا ما على الأرض زينة لها} فيه أربعة أقوال.
أحدها: أنهم الرجال. رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس.
والثاني: العلماء، رواه مجاهد عن ابن عباس فعلى هذين القولين تكون {ما} في موضع مَنْ لأنها في موضع إِبهام، قاله ابن الانباري.
والثالث: أنَّه ما عليها من شيء، قاله مجاهد. والرابع: النبات والشجر، قاله مقاتل. وقول مجاهد أعمُّ، يدخل فيه النبات، والماء، والمعادن، وغير ذلك.
فإن قيل: قد نرى بعض ما على الأرض سَمِجاً وليس بزينة.
فالجواب: أنا إِن قلنا: إِن المراد به شيء مخصوص، فالمعنى: إِنا جعلنا بعض ما على الأرض زينةً لها، فخرج مخرج العموم، ومعناه الخصوص. وإِن قلنا: هم الرجال أو العلماء، فلعبادتهم أو لدلالتهم على خالقهم. وإِن قلنا: النبات والشجر، فلأنه زينة لها تجري مجرى الكسوة والحلية. وإِن قلنا: إِنه عامّ في كل ما عليها، فلكونه دالاًّ على خالقه، فكأنَّه زينة الأرض من هذه الجهة.
قوله تعالى: {لنبلوهم} أي: لنختبر الخلق، والمعنى: لنعاملهم معاملة المبتلى. قال ابن الأنباري: من قال: إِن {ما على الأرض} يعني به النبات، قال: الهاء والميم ترجع إِلى سكان الأرض المشاهِدين للزينة، ومن قال: {ما على الأرض} الرجال، ردَّ الهاء والميم على {ما} لأنها بتأويل الجميع، ومعنى الآية: لنبلوهم فنرى أيُّهم أحسن عملاً، هذا، أم هذا. قال الحسن: أيُّهم أزهد في الدنيا. وقد ذكرنا في هذه الآية أربعة أقوال في سورة [هود: 7]. ثم أعلم الخلقَ أنه يفني جميع ذلك، فقال تعالى: {وإِنا لجاعلون ما عليها صعيداً} قال الزجاج: الصعيد: الطريق الذي لا نبات فيه. وقال ابن الأنباري: قال اللغويون: الصعيد: التراب، ووجه الأرض. فأما الجُرُز، فقال الفراء: أهل الحجاز يقولون: أرض جُرُزٌ، وجَرْزٌ. وأسد تقول: جَرَز، وجُرُز، وتميم تقول: أرض جُرْز، وجَرْز، بالتخفيف، وقال أبو عبيدة: الصعيد الجُرُز: الغليظ الذي لا يُنْبِتُ شيئاً. ويقال للسَّنَةِ المُجْدِبة: جُرُز، وسِنُون أجراز، لجدوبتها، وقلَّة مطرها، وأنشد:
قَدْ جَرّفَتْهُنَّ السِّنُون الأجْرَازْ ***
وقال الزجاج: الجرز: الأرض التي لا ينبت فيها شيء، كأنها تأكل النبت أكلاً. وقال ابن الأنباري: قال اللغويون: الجرز: الأرض التي لا يبقى بها نبات، تحرق كل نبات يكون بها. وقال المفسرون: وهذا يكون يوم القيامة، يجعل الله الأرض مستويةً لا نبات فيها ولا ماء.


قوله تعالى: {أم حسبت أن أصحاب الكهف والرَّقيم} نزلت على سبب قد ذكرناه عند قوله تعالى: {ويسألونك عن الروح} [الإسراء: 85]. وقال ابن قتيبة: ومعنى {أم حسبت}: أحسبت. فأما {الكهف} فقال المفسرون: هو المغارة في الجبل، إِلا أنه واسع، فاذا صغر، فهو غار. قال ابن الأنباري: قال اللغويون: الكهف بمنزلة الغار في الجبل.
فأما الرقيم، ففيه ستة أقوال.
أحدها: أنه لوح من رصاص كانت فيه أسماء الفتية مكتوبة ليعلم من اطّلَع عليهم يوماً من الدهر ما قصتهم، قاله أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال وهب بن منبِّه، وسعيد بن جبير في رواية، ومجاهد في رواية. وقال السدي: الرقيم: صخرة كُتب فيها أسماء الفتية، وجُعلت في سُور المدينة. وقال مقاتل: الرقيم: كتاب كتبه رجلان صالحان، وكانا يكتمان إِيمانَهما من الملك الذي فرَّ منه الفتية، كتبا أمر الفتية في لوح من رصاص، ثم جعلاه في تابوت من نحاس، ثم جعلاه في البناء الذي سَدُّوا به باب الكهف، فقالا: لعل الله أن يُطْلِعَ على هؤلاء الفتية أحداً، فيعلمون أمرهم إِذا قرؤوا الكتاب. وقال الفراء: كُتب في اللوح أسماؤهم، وأنسابهم، ودينهم، وممن كانوا. قال أبو عبيدة: وابن قتيبة: الرقيم: الكتاب، وهو فعيل بمعنى مفعول، ومنه: كتاب مرقوم، أي: مكتوب.
والثاني: أنه اسم القرية التي خرجوا منها، قاله كعب.
والثالث: اسم الجبل، قاله الحسن، وعطية.
والرابع: أن الرقيم: الدواة، بلسان الروم، قاله عكرمة ومجاهد في رواية. والخامس: اسم الكلب، قاله سعيد بن جبير.
والسادس: اسم الوادي الذي فيه الكهف، قاله قتادة، والضحاك.
قوله تعالى: {كانوا من آياتنا عجباً} قال المفسرون: معنى الكلام: أحسبتَ أنهم كانوا أعجبَ آياتنا؟! قد كان في آياتنا ما هو أعجب منهم، فإن خلق السموات والأرض وما بينهما أعجب من قصتهم. وقال ابن عباس الذي آتيتك من الكتاب والسنَّة والعلم، أفضل من شأنهم.
قوله تعالى: {إِذ أوى الفتية} قال الزجاج: معنى: أوَوْا إِليه، صاروا إِليه، وجعلوه مأواهم. والفتية: جمع فتى، مثل غُلام وغِلمة، وصبي وصبية. وفِعلة من أسماء الجمع، وليس ببناء يقاس عليه؛ لا يجوز غُراب وَغِرْبة، ولا غنيٌّ وغِنية. وقال بعض المفسرين: الفتية: بمعنى الشبان. وقد ذكرنا عن القتيبي أن الفتى: بمعنى الكامل من الرجال، وبيَّنَّاه في قوله تعالى: {من فتياتكم المؤمنات} [النساء: 25].
قوله تعالى: {فقالوا ربنا آتنا من لدنك} أي: من عندك {رحمة} أي: رزقاً {وهيِّئ لنا} أي: أصلح لنا {من أمرنا رشداً} أي: أرشدنا إِلى ما يقرِّبنا منك. والمعنى: هيِّئ لنا من أمرنا ما نصيب به الرشد. والرُّشد والرَّشد، والرشاد: نقيض الضلال.
تلخيص قصة أصحاب الكهف:
اختلف العلماء في بُدُوِّ أمرهم، وسبب مصيرهم إِلى الكهف، على ثلاثة أقوال.
أحدها: أنهم هربوا ليلاً من ملكهم حين دعاهم إِلى عبادة الأصنام، فمروا براعٍ له كلب، فتبعهم على دينهم، فأوَوا إِلى الكهف يتعبَّدون، ورجل منهم يبتاع لهم أرزاقهم من المدينة، إِلى أن جاءهم يوماً فأخبرهم أنهم قد ذُكِروا، فبَكوا وتعَّوذوا بالله من الفتنة، فضرب الله تعالى على آذانهم، وأمر الملك فسدَّ عليهم الكهف، وهو يظنهم أيقاظاً، وقد توفَّى الله أرواحهم وفاة النَّوم، وكلبُهم قد غشيه ما غشيهم. ثم إِن رجلين مؤمنَيْن يكتمان إِيمانهما كتبا أسماءهم وأنسابهم وخبرهم في لوح من رصاص، وجعلاه في تابوت من نحاس في البنيان، وقالا: لعل الله يُطْلع عليهم قوماً مؤمنين، فيعلمون خبرهم، هذا قول ابن عباس. وقال عبيد بن عمير: فَقَدهم قومهم فطلبوهم، فعمَّى الله عليهم أمرهم، فكتبوا أسماءهم وأنسابهم في لوح: فلان وفلان أبناء ملوكنا فَقَدْنَاهم في شهر كذا، في سنة كذا، في مملكة فلان، ووضعوا اللوح في خزانة الملك، وقالوا: لَيَكُونَنَّ لهذا شأن. والثاني: أن أحد الحواريِّين جاء إِلى مدينة أصحاب الكهف، فأراد أن يدخلها، فقيل له: إِن على بابها صنماً لا يدخلها أحد إِلا سجد له، فكره أن يدخلها، فأتى حمَّاماً قريباً من المدينة، فكان يعمل فيه بالأجْر، وعلقه فتية من أهل المدينة، فجعل يخبرهم عن خبر السماء والأرض، وخبر الآخرة، فآمنوا به وصدَّقوه، حتى جاء ابن الملك يوماً بامرأة، فدخل معها الحمَّام، فأنكر عليه الحواريُّ ذلك، فسبَّه ودخل، فمات وماتت المرأة في الحمام، فأتى الملك، فقيل له: إِن صاحب الحمام قتل ابنك، فالْتُمِس فهرب، فقال: من كان يصحبه؟ فسُمي له الفتيةُ، فالْتُمِسوا فخرجوا من المدينة، فمروا على صاحب لهم في زرع، وهو على مثل أمرهم، فانطلق معهم ومعه كلب حتى آواهم الليل إِلى الكهف، فدخلوه فقالوا: نبيت هاهنا، ثم نصبح إِن شاء الله فتَرَون رأيكم، فضرب الله على آذانهم فناموا؛ وخرج الملك، وأصحابه يتبعونهم، فوجدوهم قد دخلوا الكهف، فكلما أراد رجل أن يدخل الكهف أُرعب، فقال قائل للملك: أليس قلتَ: إِن قدرتُ عليهم قتلتُهم؟ قال: بلى، قال: فابن عليهم باب الكهف حتى يموتوا جوعاً وعطشاً، ففعل، هذا قول وهب بن منبِّه.
والثالث: أنهم كانوا أبناء عظماء المدينة وأشرافهم، خرجوا فاجتمعوا وراء المدينة على غير ميعاد، فقال رجل منهم، هو أسنهم: إِني لأجد في نفسي شيئاً ما أظن أحداً يجده، فقالوا: ما تجد؟ قال: أجد في نفسي أن ربي ربُّ السموات والأرض، فقاموا جميعاً فقالوا: ربُّنا ربُّ السموات والأرض، فأجمعوا أن يدخلوا الكهف، فدخلوا، فلبثوا ما شاء الله، هذا قول مجاهد. وقال قتادة: كانوا أبناء ملوك الروم، فتفرَّدوا بدينهم في الكهف، فضرب الله على آذانهم.
فصل:
فأما سبب بعث أصحاب الكهف من نومهم، فقال عكرمة: جاءت أمّةٌ مسلمةٌ، وكان ملكهم مسلماً، فاختلفوا في الروح والجسد، فقال قائل: يُبعث الروح والجسد.
وقال قائل: يبعث الروح وحده، والجسد تأكله الأرض فلا يكون شيئاً، فشق اختلافهم على الملك، فانطلق فلبس المسوح، وقعد على الرماد، ودعا الله أن يبعث لهم آية تبين لهم، فبعث الله أصحاب الكهف. وقال وهب بن منبه: جاء راعٍ قد أدركه المطر إِلى الكهف، فقال: لو فتحت هذا الكهف، وأدخلته غنمي من المطر، فلم يزل يعالجه حتى فتحه، ورد الله إِليهم أرواحهم حين أصبحوا من الغد. وقال ابن السائب: احتاج صاحب الأرض التي فيها الكهف أن يبني حظيرة لغنمه، فهدم ذلك السدَّ، فبنى به، فانفتح باب الكهف. وقال ابن إِسحاق: ألقى الله في نفس رجل من أهل البلد أن يهدم ذلك البنيان فيبني به حظيرة لغنمه، فاستأجر عاملين ينزعان تلك الحجارة، فنزعاها، وفتحا باب الكهف، فجلسوا فرحين، فسلَّم بعضهم على بعض لا يرون في وجوههم ولا أجسادهم شيئاً يكرهونه، إِنما هم على هيئتهم حين رقدوا وهم يرون أن ملكهم في طلبهم، فصلّوا، وقالوا ليمليخا صاحب نفقتهم: انطلق فاستمع، ما نُذكَر به، وابتغ لنا طعاماً، فوضع ثيابه، وأخذ الثياب التي كان يتنكر فيها، وخرج فرأى الحجارة قد نزعت عن باب الكهف، فعجب، ثم مَرَّ مستخفياً متخوِّفاً أن يراه أحد فيذهب به إِلى الملك، فلما رأى باب المدينة رأى عليه علامة تكون لأهل الإِيمان، فعجب، وخُيِّل إِليه أنها ليست بالمدينة التي يعرف، ورأى ناساً لا يعرفهم، فجعل يتعجب ويقول: لعلِّي نائم؛ فلما دخلها رأى قوماً يحلفون باسم عيسى، فقام مسنداً ظهره إِلى جدار، وقال في نفسه: والله ما أدري ما هذا، عشية أمس لم يكن على وجه الأرض من يذكر عيسى إِلا قُتل، واليوم أسمعهم يذكرونه، لعل هذه ليست المدينة التي أعرف، والله ما أعرف مدينة قرب مدينتنا، فقام كالحيران، وأخرج وَرِقاً فأعطاه رجلاً وقال: بعني طعاماً، فنظر الرجل إِلى نقشه فعجب، ثم ألقاه إِلى آخر، فجعلوا يتطارحونه بينهم، ويتعجبون، ويتشاورون، وقالوا: إِن هذا قد أصاب كنزاً، فَفَرق منهم، وظنَّهم قد عرفوه، فقال: أمسكوا طعامكم فلا حاجة بي إِليه، فقالوا له: من أنت يا فتى؟ والله لقد وجدتَ كنزاً وأنت تريد أن تخفيه، شاركنا فيه وإِلا أتينا بك إِلى السلطان فيقتلك، فلم يدر ما يقول، فطرحوا كساءه في عنقه وهو يبكي ويقول: فُرِّقَ بيني وبين إِخوتي، يا ليتهم يعلمون ما لقيتُ، فأتَوا به إِلى رجلين كانا يدبِّران أمر المدينة، فقالا: أين الكنز الذي وجدتَ؟ قال: ما وجدتُ كنزاً، ولكن هذه وَرِق آبائي، ونقش هذه المدينة وضربها، ولكن والله ما أدري ما شأني، ولا ما أقول لكم، قال مجاهد: وكان وَرِق أصحاب الكهف مثل أخفاف الإِبل، فقالوا: من أنت، وما اسم أبيك؟ فأخبرهم، فلم يجدوا من يعرفه، فقال له أحدهما: أتظن أنك تسخر مِنّا وخزائن هذه البلدة بأيدينا، وليس عندنا من هذا الضرب درهم ولا دينار؟! إني سآمر بك فتعذَّب عذاباً شديداً ثم أوثقك حتى تعترف بهذا الكنز، فقال يمليخا: أنبؤني عن شيء أسالكم عنه، فإن فعلتم صَدَقتكم، قالوا: سل، قال: ما فعل الملك دقيانوس؟ قالوا: لا نعرف اليوم على وجه الأرض مَلِكاً يسمى دقيانوس، وإِنما هذا ملك كان منذ زمان طويل، وهلكت بعده قرون كثيرة، فقال: والله ما يصدِّقني أحد بما أقوله، لقد كُنّا فتيةً، وأكرهنا الملكُ على عبادة الأوثان والذبح للطواغيت، فهربنا منه عشية أمسِ فنمنا، فلما انتبهنا خرجتُ أشتري لأصحابي طعاماً، فإذا أنا كما ترون، فانطلقوا معي إِلى الكهف أُريكم أصحابي، فانطلقوا معه وسائر أهل المدينة، وكان أصحابه قد ظنوا لإِبطائه عليهم أنه قد أُخذ، فبينما هم يتخوّفون ذلك، إِذ سمعوا الأصوات وجلبة الخيل، فظنوا أنهم رُسُل دقيانوس، فقاموا إِلى الصلاة، وسلَّم بعضهم على بعض، فسبق يمليخا إِليهم وهو يبكي، فبكَوا معه، وسألوه عن شأنه، فأخبرهم خبره، وقصّ عليهم النبأَ كلَّه، فعرفوا أنهم كانوا نياماً بأمر الله تعالى، وإنما أوقظوا ليكونوا آية للناس، وتصديقاً للبعث؛ ونظر الناس في المسطور الذي فيه أسماؤهم وقصتهم، فعجبوا، وأرسلوا إِلى ملكهم، فجاء، واعتنق القومَ، وبكى، فقالوا له: نستودعك الله ونقرأ عليك السلام، حفظك الله، وحفظ ملكك، فبينا الملك قائم، رجعوا إِلى مضاجعهم، وتوفَّى الله عزَّ وجلَّ أنفسهم، فأمر الملك أن يُجعل لكل واحد منهم تابوت من ذهب، فلما أَمْسَواْ رآهم في المنام، فقالوا: إِنا لم نُخلَق من ذهب وفضة، ولكن خُلقنا من تراب، فاتركنا كما كُنّا في الكهف على التراب حتى يبعثنا الله عز وجل منه، وحجبهم الله عز وجل حين خرجوا من عندهم بالرُّعْب، فلم يقدر أحد أن يدخل عليهم، وأمر المَلِك فجُعِل على باب الكهف مسجدٌ يصلَّى فيه، وجعل لهم عيداً عظيماً يؤتَى كلَّ سنة.
وقيل: إِنه لما جاء يمليخا ومعه الناس، قال: دعوني أدخل إِلى أصحابي فأبشِّرهم، فانهم إِن رأَوْكم معي أرعبتموهم، فدخل فبشّرهم، وقبض الله روحه وأرواحهم، فدخل الناس، فإذا أجساد لا ينكرون منها شيئاً، غير أنها لا أرواح فيها، فقال الملك: هذه آيةٌ بعثها الله لكم.
قوله تعالى: {فضربنا على آذانهم} قال الزجاج: المعنى: أنمناهم ومنعناهم السمع، لأن النائم إِذا سمع انتبه. و{عدداً} منصوب على ضربين.
أحدهما: على المصدر، المعنى: تُعَدُّ عدداً.
والثاني: أن يكون نعتاً للسنين، المعنى: سنين ذات عدد، والفائدة في ذِكْر العدد في الشيء المعدود، توكيد كثرة الشيء، لأنه إِذا قَلَّ فُهِم مقداره، وإِذا كَثُر احتيج إِلى أن يُعَدَّ العدد الكثير. {ثم بعثناهم} من نومهم، يقال لكُلِّ مَنْ خرج من الموت إِلى الحياة، أو من النوم إِلى الانتباه: مبعوث، لأنه قد زال عنه ما كان يحبسه عن التصرِّف والانبعاث.
وقيل: معنى {سنين عدداً}: أنه لم يكن فيها شهور ولا أيام، إِنما هي كاملة، ذكره الماوردي.
قوله تعالى: {لنعلم أيُّ الحزبين} قال المفسرون: أي: لنرى. وقال بعضهم: المعنى: لتعلموا أنتم. وقرأ أبو الجوزاء، وأبو عمران، والنخعي: {ليُعلَم} بضم الياء، على ما لم يُسمَّ فاعله {أيُّ الحزبين}، ويعني بالحزبين: المؤمنين والكافرين من قوم أصحاب الكهف. {أحصى لما لبثوا} أي: لنعلم أهؤلاء أحصى للأمد أو هؤلاء، فكأنه وقع بينهم تنازع في مدة لبثهم في الكهف بعد خروجهم من بينهم، فبعثهم الله ليبين ذلك ويظهر. قال قتادة: لم يكن للفريقين عِلم بلبثهم، لا لمؤمنيهم، ولا لكافريهم. قال مقاتل: لما بُعثوا زال الشك وعُرفت حقيقة اللبث. وقال القاضي أبو يعلى: معنى الكلام: بعثناهم ليظهر المعلوم في اختلاف الحزبين في مدة لبثهم، لما في ذلك من العبرة.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8